بقلم: بيل ديريا ترجمة/عبدالمنعم عثمان
هكذا تعمل الجيوش في روسيا والصين وكوريا الشمالية
أطلق أحد المحاربين القدامى في الكونغرس تحذيراً بشأن إقالة وزير الدفاع بيت هيغسيث لكبار الضباط العسكريين.
يعرف النائب الديمقراطي سيث مولتون من ولاية ماساتشوستس بعض الأمور عن الجنرالات. فبصفته ضابطاً في قوات مشاة البحرية الأمريكية خلال السنوات الأولى من الحرب في العراق، عمل كمساعد ضمن وحدة النخبة لمكافحة التمرد بقيادة الجنرال ديفيد بترايوس. وعندما ترشح للكونغرس عام 2014، حظي بتأييد الجنرال المتقاعد ستانلي ماكريستال. وكان مولتون من أبرز المنتقدين لفشل القيادات العسكرية في العراق، ولثقافة “الوظيفة العسكرية” التي كثيراً ما كافأت القادة الذين تجنبوا اتخاذ قرارات صعبة، ومع ذلك تمت ترقيتهم.
لكنّه لا يُبدي سوى الازدراء لما يصفه بالأسلوب الفج والعلني المُسيّس الذي اتبعه وزير الدفاع بيت هيغسيث لإعادة تشكيل الصفوف العليا في الجيش. فقد أعلن هيغسيث، وهو أيضاً من قدامى المحاربين في العراق، عن عزمه تقليص عدد الجنرالات من رتبة أربع نجوم بنسبة 20%، ومن بقية الرتب العليا بنسبة 10%، بهدف “تحفيز الابتكار والكفاءة العملياتية بعيداً عن الطبقات البيروقراطية غير الضرورية”.
وفي حديثه مع مجلة بوليتيكو، يوضح مولتون، العضو في لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب، سبب اتفاقه مع هيغسيث في أن الجيش يعاني من تضخم في القيادات، لكنه يرى أن حملة الإقالات التي يقودها الوزير تبدو سياسية بالكامل وتقوّض جاهزية الجيش. حيث قال:
“هذا ليس مجرد وصفة لجيش مُسيّس، بل وصفة لجيش سلطوي. هكذا تعمل الجيوش في روسيا والصين وكوريا الشمالية. وبالمناسبة، هذا جزء كبير من السبب في أن جيوشهم ليست قوية أو فعالة مثل جيشنا. لأننا نُقدّر النقد والأفكار الجديدة، ونستفيد من تنوع المواهب في بلادنا، ونحمّل الجنود مسؤولية أفعالهم وأفعال من هم تحت قيادتهم. بيت هيغسيث يُمثل نقيض كل هذا. إنه نقيض القيادة بالمثال”
” أعلن الوزير هيغسيث مؤخرًا عن تغييرات جذرية في الجيش، من بينها تقليص كبير في عدد الجنرالات. ويصعب على الجمهور العادي أحيانًا فهم مدى البيروقراطية العسكرية، أو ما إذا كانت هذه القرارات جيدة أم سيئة. ورغم أن هيغسيث برّر قراراته بالرغبة في التخلص من التكرار وتعزيز الكفاءة، إلا أنه قال أيضًا إنه يريد التخلص من من تورطوا في “هراء التنوع والشمول”.
يرد ميلتون على ذلك قائلا:
“الحقيقة أننا لا نعرف السبب الحقيقي، لأن هيغسيث لم يقدّم تبريرًا صادقًا لهذه التغييرات. لقد أرسلنا إليه رسائل رسمية، بعضها من الحزبين، بما في ذلك رسالة شاركت في صياغتها مع النائب الجمهوري دون بيكون، وهو جنرال سابق في سلاح الجو، نسأله فيها عن أسباب الإقالات المبكرة للجنرالات. وسألنا مسؤولي البنتاغون في جلسات استماع. وأنتم، كصحفيين، سألتم أيضًا. لكنه لم يرد.”
ويضيف:
“عدم شرح القصد ينتهك مبدأ أساسياً في القيادة، وهو ما كان يجب أن يتعلمه في الحرس الوطني: أن تشرح وتوضح القصد لجنودك. كما أنه ينتهك مبدأ أساسيًا في الديمقراطية، وهو أننا لا نتبع أوامر عمياء دون فهم خلفياتها ومناقشتها.”
هل الجيش يعاني تضخماً في القيادات؟
يقول ميلتون:
” أنا أتفق مع فكرة أن عدد الجنرالات قد يكون مفرطاً. فبين عامي 1965 و2023، زاد عدد الضباط من فئة الجنرال أو الأميرال بنسبة 31%، مع زيادة خاصة في الرتب العليا: 107% في عدد جنرالات الأربع نجوم، و129% في جنرالات الثلاث نجوم. وخلال الفترة نفسها، انخفض حجم القوة العسكرية الإجمالية بحوالي 50%.” ويضيف بنبرة فخر: ” سلاح مشاة البحرية يفهم هذا جيداً، فليس لديه سوى جنرالين من فئة الأربع نجوم: القائد العام ونائبه. في حين أن الجيش تضخّمت رتبه كما تضخّمت ميدالياته.”
نعم، تحدثتُ كجندي من مشاة البحرية!
ولكنها الحقيقة.
الفكرة هي أنه يجب أن تكون هناك استراتيجية لإجراء هذه التغييرات، لأن هيكل القوة قد شهد العديد من التحولات على مر الزمن. البيئة الأمنية التي نواجهها اليوم أكثر تنوعًا بكثير. لم يكن أحد قلقًا بشأن إفريقيا في عام 1965 بالطريقة التي نقلق بها اليوم. لم نكن نواجه خصمين نوويين شبه ندّين مثل روسيا والصين. ولم يكن أحد يعرف ما معنى “الفضاء السيبراني”، أو ما الذي ستفعله المركبات غير المأهولة لتغيير طبيعة الحروب كما حدث في أوكرانيا. لذلك، يجب أن نكون قوة متطورة. ولكن القيام بتقليصات في القوة البشرية العليا بطريقة عشوائية وشاملة فقط لأن نسبة 20 أو 30 بالمئة تبدو كأرقام جميلة ومدروسة لا يعكس أي استراتيجية حقيقية.
يبدو حتى الآن أن العديد من كبار الضباط الذين استهدفهم هيغسث للإقالة — مثل رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال “سي كيو براون” والأدميرال “ليزا فرانشتي” — كانوا إما من السود أو من النساء. بعبارة أخرى، في حين يتحدث عن تقليص التضخم والازدواجية، فإن ما يقوم به يبدو استجابة لأجندة سياسية بحتة. هل هذا توصيف عادل؟
حسنًا، هذا بالضبط ما يصفه بيت هيغسث في كتابه، والذي هو في جوهره دليل لتسييس الجيش وغرس أيديولوجيا محافظة متطرفة في البنتاغون.
من بين من تمّت إقالتهم حتى الآن، هناك ثلاث نساء، من بينهن أول قائدة للعمليات البحرية وأول قائدة لخفر السواحل مع أن النساء يشكّلن أقل من 10٪ من الضباط العامين وضباط العلم (ضباط العلم في الجيش الأمريكي من رتبة عميد فما فوق). وعلى مستوى كامل القوات، لم تصل سوى 10 نساء في التاريخ إلى رتبة جنرال أو أميرال بأربع نجوم، وقد أقال ترامب اثنتين منهن. انظر إلى “سي كيو براون”، أحد أكثر الضباط موهبة في جيله. لقد كتبت توصية إلى الرئيس بايدن — دون أن يُطلب مني — أحثه فيها بقوة على اختياره رئيسًا لهيئة الأركان المشتركة، لأنني كنت منبهرًا بقيادته وذكائه. لقد تمّت إقالة “سي كيو براون” بشكل واضح من قبل دونالد ترامب وبيت هيغسث لأنه رجل أسود، وهذا يُعد عنصرية صريحة.
أود أن أعود لاحقًا إلى موضوع التسييس الذي ذكرته قبل قليل، لكن قبل ذلك، أود أن أتحدث عن أثر إقالة الجنرالات السود والأدميرالات من النساء على جاهزية الجيش.
إن ما يحدث يرسل رسالة واضحة إلى القوات مفادها أن الجدارة لا تهم، وأنه لا توجد مساءلة عن القرارات المهمة، وأن أي شخص يمكن أن يُفصل لمجرد أنه يختلف سياسيًا مع القائد الأعلى.
وهذا لا يؤدي فقط إلى تسييس الجيش، بل إلى تحويله إلى جيش استبدادي. هذا هو تمامًا ما يحدث في جيوش مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية. وبالمناسبة، هذا أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل تلك الجيوش أقل كفاءة وقوة من جيشنا. لأننا في الولايات المتحدة نثمّن النقد والأفكار الجديدة، ونزدهر من خلال تنوع المواهب في مجتمعنا، ونطالب الجنود بتحمّل المسؤولية عن أفعالهم وأفعال من هم تحت قيادتهم. بيت هيغسث يمثّل نقيض كل ذلك، فهو يُجسّد نقيض القيادة بالقدوة.
ذكرتَ مسألة النقد الذي يُعد من سمات جيشنا، بعكس ما نراه في جيوش بعض خصومنا. لكن دعنا نتحدث للحظة عن مسألة المساءلة. لقد كُتب الكثير خلال العقود الماضية عن غياب المساءلة في الجيش، خاصة بعد خوض حربين كبيرتين في العراق وأفغانستان.
وكان هناك ذلك الاقتباس الشهير: “الجندي الذي يفقد بندقيته يواجه عواقب أكبر من الجنرال الذي يخسر حربًا.” فهل نحن بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد في تصفية القيادات العسكرية الفاشلة؟
أعتقد أننا بحاجة لذلك، ولكن ذلك يجب أن يتم على أساس الجدارة. لا بناءً على الحصص أو الاعتبارات العنصرية.
فإذا كنت مواطنًا عاديًا تتابع ما يحدث، فكيف لك أن تعرف ما إذا كانت قرارات إقالة هذا الجنرال أو خفض رتبة ذلك الأدميرال قد اتُخذت لأسباب مبررة، أم أنها جزء من أجندة سياسية أوسع؟
كل ما يحتاج إليه الوزير هو أن يجيب ببساطة على السؤال: لماذا أُقيلوا؟، لكنه حتى الآن يرفض الإجابة عليه بصراحة.
وهل هناك وسيلة لإجباره على تقديم هذه الإجابة؟
كل وزراء الدفاع السابقين – على حد علمي – أجابوا على أسئلة الكونغرس. أما هيغسث، فقد رفض حتى الرد على استفساراتنا، وهذا لا يضعف مصداقيته فحسب، بل يُقوض أيضًا قيادته أمام الجميع، لأن كل جنرال أو ضابط في الخدمة الآن يتساءل: هل أكون التالي؟ فهم لا يملكون أدنى فكرة عن سبب إقالة زملائهم. لقد تحدثتُ إلى جنرالات أقيلوا، وهم أنفسهم لا يعرفون السبب. وهذه ليست طريقة لقيادة وزارة الدفاع.
لقد اطلعتَ على مذكراته حول القيادات التي يخطط لدمجها. فهو يريد دمج قيادة “مستقبل الجيش” مع قيادة “التدريب والعقيدة”، ولكل منهما جنرال برتبة أربع نجوم على رأسها. ومن الواضح أن أحدهما سيُقال. ومن منظور بسيط أو غير متخصص، هل هذا القرار صائب؟ وهل هو الحل المناسب لمعالجة ما وصفته سابقًا بأنه “تضخم في عدد الجنرالات”؟
و مرة أخرى، وسأكون صريحًا جدًا هنا: هل هذا الدمج يتم لأن على رأس إحدى القيادتين جنرال أسود، وعلى رأس الأخرى جنرال أبيض؟
دعنا نخمن فقط، هل تعتقد أن هيغسث سيقيل الجنرال الأسود أم الأبيض؟ ما رأيك؟ بإمكاني تقديم حجة لدمج هاتين القيادتين. وإن كان هيغسث يملك هذه الحجة فعلاً، فليعرضها علينا. وإذا كانت مقنعة، فسيتفق الناس معها. لكن تخميني هو أنه ببساطة سيقيل الرجل الأسود.
الرئيس يسعى للحصول على زيادة كبيرة في الإنفاق العسكري. لو كان لديك عصا سحرية لتوجيه ميزانية وزارة الدفاع، فأين كنت ستركز الموارد؟
كنت سأستثمر أضعافًا مضاعفة في مجال الفضاء. الإدارة الحالية تقوم بتقليص ميزانية الفضاء.
كنت سأعزز قدراتنا في مجال الأمن السيبراني. والإدارة للتو أقالت قائد القيادة السيبرانية.
كنت سأستثمر أكثر في القطاع الخاص المبتكر، خصوصًا في مجالات تصوير الأقمار الصناعية والاستخبارات. ولم نرَ أي مبادرة مماثلة تحت قيادة هيغسث.
إذاً، ليست المسألة أن “التضخم سيئ”. بل قد يكون مفيداً— لكن بشرط أن تكون الأولويات صحيحة. وأنا لا أعرف أحدًا داخل البنتاغون يثق بقيادة بيت هيغسث بما يكفي للاعتقاد أنه سيجري الاستثمارات الصحيحة لصالح جنودنا. فهو يقضي يومه في الدفاع عن نفسه، لا عن بلدنا.
أريد أن أعود لموضوع التسييس الذي ناقشناه سابقًا. ما هي المخاطر المترتبة على عسكرة مسيّسة، من وجهة نظر العسكريين أنفسهم، وكذلك من وجهة نظر عامة الناس؟ ماذا يحدث عندما يشعر أي من هاتين الفئتين أو كلتيهما أن القرارات في قمة الهرم العسكري تُتخذ لأسباب أيديولوجية أو بدوافع سياسية؟
تخيل فقط لو كانت لدينا مؤسسة عسكرية حزبية ومسيّسة كما يريد ترامب وهيغسث. كقائد فصيلة في العراق، إذا أعطيت أمرًا لفصيلتي وقال نصفهم: “لا، لن ننفذ هذا الأمر لأننا لا نؤيد حرب بوش”، فهذا لا يصلح. هذا لا يمكن أن يعمل في جيش ناجح. وبالتأكيد لا يصلح في دولة ديمقراطية.
هل أنت قلق من نشر ترامب للقوات على الحدود؟
أنا أشعر بالقلق من أن يتم استخدام الجيش بطرق غير قانونية وغير شرعية وذات طابع سياسي حزبي، لأن ترامب قال لنا صراحة إنه ينوي ذلك.
هل ترى دلائل على أن هذا يحدث الآن؟ وما أكثر ما يثير قلقك من حيث احتمال حدوثه؟
في المرة القادمة التي تقع فيها مظاهرة لا تعجب ترامب، ويطلب من وزير الدفاع أن يأمر القوات بإطلاق النار على المتظاهرين، أتوقع أن هيغسث سيوافق. بينما، على الأقل في ولايته الأولى، رفض وزير الدفاع في عهد ترامب تنفيذ هذا الطلب تحديدًا.
هل سيكون هناك تأثير على موازين القوى الدولية والحروب الحديثة؟
تشكل التغييرات في القيادة العسكرية العليا داخل القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، عاملاً حاسماً في إعادة تشكيل موازين القوى الدولية، خصوصاً في عصر تتسم فيه الحروب بالتعقيد التكنولوجي وتعدد أبعاد المواجهة. فإقالة عدد من كبار الضباط دون مبررات استراتيجية معلنة، وفي سياق يفتقر إلى الشفافية، لا تعد شأناً داخلياً فحسب، بل تمثل رسالة استراتيجية إلى الخصوم والحلفاء على حد سواء. ذلك أن تماسك القيادة العسكرية في الدول العظمى يُعد أحد مرتكزات الردع الفعّال، وأي اختلال فيه يُفسَّر من قبل الأطراف الأخرى كفرصة لإعادة التموضع أو تصعيد النفوذ في مناطق التماس الجيوسياسي.
إن موازين القوى لم تعد تُقاس فقط بعدد حاملات الطائرات أو حجم الترسانة النووية، بل بات يُنظر إلى كفاءة القيادة، وسرعة اتخاذ القرار، والقدرة على دمج أنظمة القتال المتقدمة ضمن منظومة عقيدة موحدة. وفي هذا السياق، فإن الإقالات المفاجئة، أو إعادة هيكلة القيادات بطريقة تفتقر إلى الرؤية العملياتية، تنعكس سلباً على جاهزية القوات، وتؤخر عملية التكيف مع التهديدات المستجدة مثل الحرب السيبرانية، والذكاء الاصطناعي في ساحة المعركة، وحروب المناطق الرمادية التي تعتمد على الوكلاء والأساليب غير النظامية.
الخصوم الاستراتيجيون مثل روسيا والصين يراقبون هذه التغييرات عن كثب، ويقومون بإعادة تقييم فرضيات الردع الأمريكية وقدرتها على خوض حرب متعددة المجالات وفي أكثر من بيئة عملياتية في آنٍ واحد. فعندما تظهر علامات الارتباك داخل مؤسسة الدفاع الأمريكية، تزداد احتمالات المجازفة لدى القوى المنافسة، سواء من خلال تعزيز الضغط العسكري في مناطق التوتر مثل تايوان وبحر الصين الجنوبي، أو عبر تكثيف الأنشطة الهجينة في الفضاء السيبراني والاقتصادات الغربية. ذلك أن الفراغ المؤقت في القيادة يُعد فرصة سانحة لإعادة اختبار حدود القوة الأمريكية.
علاوة على ذلك، فإن تصدّع القيادة في الداخل ينعكس أيضاً على بنية التحالفات الدولية. فالشركاء العسكريون، لا سيما ضمن الناتو وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ، يعتمدون على الاستقرار القيادي في البنتاغون كشكل من أشكال الضمان السياسي والعسكري. وأي تزعزع في هذا الاستقرار يضعف الثقة في الالتزامات الأمريكية، ويفتح الباب أمام التوجه نحو التسلح المستقل أو عقد تحالفات بديلة تتناسب مع المتغيرات الجيوسياسية.
أما على صعيد الحروب الحديثة، فإن غياب التماسك القيادي يعيق عملية تطوير العقائد الجديدة التي تتطلب تعاوناً وثيقاً بين أفرع القوات المسلحة ومجتمع التكنولوجيا الدفاعية. ومع بروز أدوار جديدة للذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيّرة، والأنظمة غير المأهولة، فإن أي خلل في القيادة يبطئ وتيرة الدمج التقني في العمليات، ويجعل من الاستجابة للتهديدات مرهونة بالقرارات السياسية أكثر منها بالعقلية العسكرية الاحترافية.
إن مخرجات هذه المرحلة الانتقالية لا تقتصر على مجرد تغييرات إدارية، بل تشكّل اختباراً لقدرة الجيوش الكبرى على التكيّف مع معادلة الردع المتغيرة. ومن غير المستبعد أن تُترجم حالة عدم اليقين داخل القيادات العسكرية الكبرى إلى زيادة في المبادرات الهجومية من قبل الخصوم، مستفيدين من الهشاشة المؤقتة في منظومات القيادة والسيطرة والردع. وبالتالي، فإن كل قرار يتخذ في مركز القيادة ينعكس مباشرة على خرائط الصراع، وتوازن المبادرة، واستقرار النظام العالمي ككل.
وبناءً عليه، فإن إصلاح القيادة العسكرية يجب ألا يكون معزولاً عن السياق الاستراتيجي العالمي، بل ينبغي أن يُدار ضمن رؤية واضحة توازن بين تعزيز الكفاءة والحفاظ على الجاهزية، بما يحافظ على مكانة القوة ويحول دون إعادة تشكيل موازين القوى بما لا يخدم الأمن والاستقرار الدوليين.
التحليل
التسييس داخل وزارة الدفاع الأمريكية
تُعدُّ الجيوش الدعامة الأساسية لحماية السيادة الوطنية وضمان الاستقرار الداخلي، ويُبنى تماسكها على أسس المهنية والحياد والكفاءة. وفي السياق الأمريكي، لطالما عكست القوات المسلحة قيم الانضباط المؤسسي والتنوع الديمقراطي. غير أن ما تشهده وزارة الدفاع الأمريكية مؤخرًا، بقيادة الوزير بيت هيغسيث، ينذر بتحول مقلق في فلسفة القيادة العسكرية، ويثير تساؤلات عميقة لدى المؤسسات التشريعية والمراقبين الاستراتيجيين.
منذ تسلمه لمنصبه، باشر الوزير هيغسيث حملة إقالات غير مسبوقة شملت عشرات الجنرالات والضباط الكبار، تحت ذريعة مواجهة البيروقراطية وتعزيز الكفاءة. إلا أن هذه الحملة اتسمت بالسرية، وافتقرت إلى المعايير المؤسسية الواضحة، ما أثار استياءً في الكونغرس، ودفع شخصيات عسكرية وسياسية إلى التعبير عن مخاوفها من أن الجيش الأمريكي يسير نحو نماذج سلطوية تُهيمن فيها الولاءات السياسية على الكفاءة المهنية.
لقد حافظت النظم العسكرية الديمقراطية على ترسيخ مبدأ ترقية أو إنهاء الخدمة وفق اعتبارات عملياتية ومهنية بحتة، بعيدًا عن النزعات الأيديولوجية أو الحسابات السياسية. لكن التحقيقات البرلمانية والتقارير الصحفية الأخيرة كشفت عن نمط مقلق من الإقالات التي طالت قيادات بارزة تنتمي إلى أقليات عرقية وجنسية، بما يشير إلى نزعة إقصائية تُضعف من التركيبة البنيوية للجيش وتُهدد عقيدته الجامعة.
النائب سيث مولتون، الضابط السابق في سلاح مشاة البحرية، حذّر من هذا التوجه، مؤكدًا أن ما يجري داخل البنتاغون يُعيد إلى الأذهان ممارسات جيوش الأنظمة القمعية، حيث يُستبدل الولاء للوطن بالولاء للشخص. وهذه المقارنة تُبرز الانزياح الخطير عن القيم الدستورية التي تقوم عليها العقيدة العسكرية الأمريكية.
وتكمن الخطورة الأكبر فيما يتجاوز إقالات الأفراد، لتشمل تأثيراتها البعيدة على الروح المعنوية داخل القوات المسلحة. فالضباط يرون اليوم أن أداءهم الميداني لم يعد الضامن لاستمرارهم، بل مدى توافقهم مع التوجهات السياسية للقيادة العليا. وهذا يقوض مبدأ الاستقلالية العسكرية، ويخلق مناخًا من الحذر والريبة داخل المؤسسة، ما ينعكس سلبًا على الجاهزية القتالية والانضباط العام.
من المنظور العملياتي، فإن تقليص عدد جنرالات الأربع نجوم بنسبة 20% دون تحديد استراتيجية إعادة توزيع الصلاحيات أو ملاءمتها مع طبيعة التهديدات الحديثة – كالحروب السيبرانية، والتحديات الفضائية، والتهديدات غير المتماثلة– يُعد خللاً تنظيميًا فادحًا. فالقوة العسكرية لا تُقاس فقط بالعدد، بل بكفاءة الانتشار، ونوعية القيادة، والتنسيق المشترك بين الوحدات.
وتُثير الأوساط الاستراتيجية القلق من مؤشرات تفيد بإمكانية توظيف القوات المسلحة في مهام داخلية ذات طابع سياسي، كقمع الاحتجاجات أو فرض الأمن وفق أجندات غير تقليدية. وهو أمر يتعارض مع الفلسفة الأمريكية في الفصل بين القوات المسلحة والعمل الحزبي، ويهدد الثقة التاريخية بين الجيش والمجتمع المدني.
ختامًا، فإن المؤشرات الحالية تُنذر بانحراف خطير في مسار القوات المسلحة الأمريكية، إذا استمر تغليب الولاء السياسي على الكفاءة المؤسسية. فالجيش الأمريكي بنى مكانته العالمية على أسس المهنية، والابتكار، والحياد، وأي مساس بهذه الركائز سيؤدي حتمًا إلى تراجع مكانته الاستراتيجية على الصعيدين الداخلي والدولي.
تعكس حملة الإقالات الأخيرة داخل البنتاغون تصاعدًا مقلقًا في تسييس المؤسسة العسكرية، ما يُهدد العقيدة المهنية والحياد الذي لطالما ميّز القوات المسلحة الأمريكية. ويُفاقم غياب الشفافية في اتخاذ القرارات من أزمة الثقة بين القيادات، مؤثرًا سلبًا على الروح المعنوية للضباط والعناصر الميدانية. كما أن تقليص القيادات دون وجود خطة استراتيجية واضحة يُضعف من الجاهزية العملياتية في مواجهة التحديات العسكرية الحديثة، ويزيد من خطر تفكك التماسك الداخلي للمؤسسة. إن استمرار هذا النهج قد يؤدي إلى انهيار مبدأ الحياد العسكري، مما يستوجب تدخلاً تشريعيًا عاجلًا لحماية استقلالية القوات المسلحة وصون دورها المهني بعيدًا عن التجاذبات السياسية.
يرجى الاطلاع على المزيد من المقالات حول البحوث العسكرية
لخدماتنا المختلفة يرجى الاطلاع على قسم الاستشارات
المراجع
رابط المقال: ‘That’s the Way Militaries Work in Russia and China and North Korea’ – POLITICO