مفهوم وخصائص العمليات متعددة المجالات ودور القادة في تطويرها
هناك عدد من التعريفات المفترضة للعمليات متعددة المجالات (MOD) وأقرب تعريف لها “عمليات يتم تنفيذها عبر المجالات المتعددة وميادين المعركة المليئة بالتنافس للتغلب على نقاط القوة للأعداء ووقوعهم في عدد من المعاضل التعبوية والعملياتية من خلال التطبيق الجيد للقوة وتوظيف التشكيلات متعددة المجالات، وتقارب القدرات عبر المجالات والبيئات والوظائف في الوقت والمكان المناسبان لإحراز الأهداف التعبوية والعملياتية”(1).
مفهوم العمليات متعددة المجالات أساسه أن يدرك القادة أن ميدان المعركة لا يقتصر فقط على العمليات البرية والجوية والبحرية التقليدية، ولكن يشتمل أيضاً على العمليات الفضائية في الغلاف الخارجي والعمليات السيبرانية في فضاء الانترنت مع استخدام الأسلحة الحديثة والأسلحة التقليدية لتصبح جميع تلك المجالات هي نطاق مسؤوليته أثناء تنفيذ العمليات المشتركة من خلال التركيز على التخطيط وجمع البيانات الأولية المطلوبة على المستويات الاستراتيجية والعملياتية العليا.
لم يعد كافياً أن يعرف القادة وهيئات الركن بقدرات أسلحتهم قط، ولكنهم يحتاجون أن يعرفوا كيف أن يتم دمج تلك القدرات مع الأسلحة الحديثة والمجالات الأخرى لإسناد الجهود القتالية وما هي المتطلبات المحتملة في إسناد تلك المجالات، حيث أن قوة الواجب المشترك في معظم الأحيان تصبح مشتركة فقط بالاسم لأن كل مجال يقاتل للفوز في مجاله، ولكن مفهوم العمليات متعددة المجالات يسمح للقوة المشتركة أن تحقق أقصى استفادة من تأثيرات جميع الأسلحة التقليدية وأنظمة الأسلحة الحديثة للرد على الأعمال العسكرية وفي أفضل الظروف تمنع حدوث تلك الأعمال أثناء القتال.
مخطط يوضح مفهوم العمليات متعددة المجالات
مراحل تطور العمليات متعددة المجالات والهدف منها في ميدان المعركة الحديث
لقد قامت الولايات المتحدة بتطوير ذلك المفهوم في الأساس من مفهوم كراسة العقيدة “المعركة متعددة المجالات: التحول في الأسلحة الموحدة للقرن الـ 21، 2025-2040” بغرض مواجهة القدرات المتزايدة لمنافسيها وأعداءها والتي تهدف إلى حرمان القوات الصديقة من منفذ لحرية العمل في المجالات الجوية، والبحرية، والفضائية والسيبرانية في ميادين المعركة الممتدة(2).
من هنا، فإننا نستنتج أن الولايات المتحدة كانت سباقة في تطوير مفهوم العمليات متعددة المجالات، والذي يهدف إلى تنسيق الأنشطة العسكرية عبر جميع مجالات الحرب الخمسة: البر، البحر، الجو، الفضاء، والفضاء السيبراني، إضافة إلى الطيف الكهرومغناطيسي. الهدف من هذه العمليات هو فرض معضلات متزامنة ومتعددة على الخصم من خلال دمج القدرات الحركية (الفيزيائية) وغير الحركية (السيبرانية/المعلوماتية). وقد تطور مفهوم العمليات متعددة المجالات في الجيش الأمريكي عام 2018 انطلاقًا من العقيدة الجوية والبرية التي ركزت على التعاون بين القوات البرية والجوية خلال الحرب الباردة. أما اليوم، فتهدف العمليات متعددة المجالات إلى مواجهة تهديدات مثل أنظمة منع الوصول/المنطقة المحظورة (A2/AD). ومن الأمثلة العملية على هذا المفهوم عملية “غلوينغ سيمفوني” (Glowing Symphony)، التي نسّق خلالها فريق المهام المشتركة (ARES) التابع للقيادة السيبرانية الأمريكية هجمات سيبرانية مع ضربات جوية لتعطيل البنية التحتية للقيادة والسيطرة الخاصة بتنظيم داعش(3).
غرفة العمليات في قاعدة ماكسويل الأمريكية لتنفيذ عملية “جلونج سيمفوني Glowing Symphony”
الغرض من قيام قيادة العقيدة والتدريب للجيش الأمريكي بالعمل على مثل هذا المفهوم ليصبح عقيدة هو إقرار القيادة العسكرية الأمريكية بالتحديدات التي تواجه إحراز القوة المشتركة للأهداف المطلوبة بسبب تخفيض الوجود العسكري الخارجي وتقليل قدرات القوات الصديقة وزيادة قدرات العدو بما يؤثر على القوات العسكرية الأمريكية وحلفاءها وقدرتهم في تنفيذ المناورة في بيئات قتالية بعيدة عبر جميع المجالات. إضافة إلى أن ظهور أنظمة الأسلحة الحديثة وتغير طبيعة ميدان المعركة يتطلب معها إيجاد طريقة لدمج جميع تلك الأنظمة مع الأسلحة التقليدية في العمليات متعددة المجالات.
لقد تحقق الاستفادة من هذا المفهوم وتأثيره على تطوير قدرات القوة المشتركة الأمريكية بعد أن اكتمل نضجه من مفهوم “المعركة متعددة المجالات” لكي تتطور بشكل نهائي إلى “العمليات متعددة المجالات” وقد تم توضيح ذلك التحول في كراسة العقيدة الأمريكية “525-3-1، بعنوان “الجيش الأمريكي في العمليات متعددة المجالات عام 2028”.، والذي صدر في ديسمبر 2018، ليعطي فكرة عن مدى استغلال مفهوم “العمليات متعددة المجالات” حتى تستطيع القوة المشتركة تقديم حلول لمنع وهزيمة العدوان أثناء التنافس والصراع (4).
دور العمليات متعددة المجالات في دمج الأسلحة التقليدية والحديثة وتعزيز بيئة العمليات والمراكز القيادية
تركز العمليات العسكرية الحالية على مجالات محددة منفردة مما يجعل تطبيقها محدد لإسناد المهام والواجبات، لذلك أصبح من الضروري أن يكون هناك إطار عمل يسمح بمزامنة المصادر عبر جميع المجالات لإعطاء فرصة لدمج الأسلحة التقليدية مع الأسلحة الحديثة لتحقيق أقصى استفادة وكفاءة عملياتية وفي نفس الوقت تقليل الأخطار أثناء استخدام المصادر العسكرية الكبيرة، من هنا انتقل التركيز في العمليات من مجال عسكري منفصل إلى مجالات متعددة والذي يتطلب مراجعة العقيدة المشتركة وتحديثها حتى يتم تدريب قادة الجيل القادم على كيفية دمج ومزامنة التأثيرات في العمليات متعددة المجالات لتحقيق دمج ناجح للأسلحة الحديثة مع الأسلحة التقليدية.
تعطي العمليات متعددة المجالات لنا صورة المرحلة القادمة من تطور مفهوم معركة الأسلحة المشتركة والموحدة وتأثيرها على أقل مستويات الأنساق التعبوية وبينما كان أقل تشكيل فريق قتالي للأسلحة الموحدة من قبل بحجم فرقة، إلا أنه اليوم أصبح بحجم لواء أو أقل بفضل استخدام الأنظمة الحديثة والذي اشتمل على استخدام الأنظمة غير المأهولة، وفي المستقبل ومع اتجاه الجيوش لتخفيض القوى البشرية سيسمح استخدام العمليات السيبرانية بأن يكون التشكيل أقل.
مفهوم تخطيط معركة الأسلحة الموحدة والمشتركة في العمليات متعددة المجالات
وهنا يؤكد مفهوم العمليات متعددة المجالات بأن أي تشكيل قتالي يكون قادر على تنسيق الموارد والقوات لإحراز الوظائف المطلوبة في ميدان المعركة من خلال القدرة على دمج الأسلحة الحديثة مع التقليدية، والذي سيكتسب عدد من المميزات وهذا الدور لم يتغير، ولكن فقط يوسع منظور وفهم الاستخدام الأمثل للموارد لإحداث أكبر عدد من التأُثيرات لتحقيق قصد القائد والوصول للنهاية المرغوبة.
عقيدة العمليات المشتركة الحالية تعرف الوظائف المشتركة بأنها القدرات والأنشطة ذات الصلة والتي يتم وضعها في سبع مجموعات أساسية: القيادة والسيطرة، التشكيل، الاستخبارات، النيران، الحركة والمناورة، الحماية والإدامة لمساعدة قادة القوة المشتركة لمزامنة ودمج وتوجيه العمليات المشتركة. وإذا نظرنا لتلك السبع مجموعات سنجد أنها وظائف الحرب القتالية الستة بجانب التشكيل(5).
إن مفهوم العمليات متعددة المجالات في الحروب الحديثة يسعى إلى التغلب على حالة الجمود من خلال الدمج السريع والمستمر لجميع أنظمة الأسلحة الحديثة والتي تشتمل على الأنظمة غير المأهولة والعمليات السيبرانية والعمليات الفضائية مع أنظمة الأسلحة التقليدية البرية والبحرية والجوية في جميع مجالات الحرب لردع وتحقيق السيادة ، فإذا فشل إحراز الردع ستقوم التشكيلات القتالية بالعمل بالتنسيق مع العناصر الأخرى للقوة المشتركة لاختراق وتشتيت أنظمة المنع المحظورة للنفاذ إلى منطقة العدو (Anti-access and Area Denial Systems) واستغلال النتيجة في تحقيق حرية الحركة والمناورة لهزيمة تشكيلات وأنظمة العدو وتحقيق قصد القائد لإحراز الأهداف الاستراتيجية(6).
دور العمليات متعددة المجالات في تطوير قيادة المهمة للأسلحة الحديثة والتقليدية
لقد كان مبدأ قيادة المهمة من قبل مصدر إرباك داخل السياق العسكري حتى أصبحت المرادف العملي للقيادة والسيطرة بجانب كونها أحد وظائف الحرب القتالية وفلسفة تمد بالتفويض والتوجيه للقوات المسلحة. مع الأخذ في الاعتبار تغير طبيعة الحرب وتوسع عمليات الأسلحة الموحدة والمشتركة التقليدية وظهور أنظمة أسلحة اتجهت الجيوش لتطبيق مفهوم العمليات متعددة المجالات، حيث ينبغي أن تتبنى قيادة المهمة طرق تستطيع من خلالها القوات المسلحة تطبيق قيادة المهمة لتوظيف ومزامنة أنظمة الحرب الحدثة مع الأسلحة التقليدية والتي ترتكز من القيادة والسيطرة لجميع تلك الأسلحة وتعكس الدمج والتقارب لجميع عناصر القوة القتالية والتي يجب أن تقع خلال العمليات متعددة المجالات.
لكي يتم تنفيذ العمليات متعددة المجالات بكفاءة فإن هناك ضرورة لتحسين منظومة القيادة والسيطرة على المستويات التنظيمية، والعقائدية، والتدريبية، والقيادية. إن التطبيق الجيد لقيادة المهمة تساعد المراكز القيادية في ممارسة القيادة والسيطرة عبر جميع العمليات متعددة المجالات بكفاءة وتعطيها الفرصة لتشكيل رد أولي وأخذ المبادرة في بيئة المعلومات في ميدان المعركة وعلى المستويات الاستراتيجية والتعبوية ستكون تلك القيادات قادرة على تشكيل ظروف العمليات التعبوية. صرح الجنرال الأمريكي/جوزيف دانفورد، رئيس قيادة الأركان المشتركة السابق” من أجل أن يتم اتخاذ القرارات بشكل أسرع، فإن ذلك يتطلب أن يتم تنفيذ المناورة للأسلحة الموحدة والعمليات على مستوى الأنساق بشكل فعال وفي نفس الوقت تحقيق التقارب بين القدرات عبر المجالات المتعددة”(7).
دور العمليات متعددة المجالات في دمج العمليات السيبرانية في ميدان المعركة الحديثة
التمكين التكنولوجي للعمليات متعددة المجالات: إنترنت الأشياء العسكري والذكاء الاصطناعي في القيادة والسيطرة. لتنفيذ العمليات متعددة المجالات بنجاح، من الضروري دمج تقنيات متقدمة، خاصة ما يُعرف بإنترنت الأشياء العسكري (IoMT) جنبًا إلى جنب مع أنظمة القيادة والسيطرة (C2) المعززة بالذكاء الاصطناعي. يشير انترنت الأشياء إلى شبكة واسعة من المنصات والأجهزة والمستشعرات العسكرية التي تجمع وتشارك بيانات ساحة المعركة في الوقت الفعلي. أما أنظمة القيادة والسيطرة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، فبإمكانها تحليل هذه البيانات وتقديم رؤية موحدة للمعركة، ما يسمح باتخاذ قرارات أسرع وأكثر دقة. وتتصدر وزارة الدفاع الأمريكية هذا التحول من خلال مبادرة القيادة والسيطرة المشتركة لجميع المجالات (JADC2)، بدعم من نظام إدارة المعركة المتقدم (ABMS) التابع لسلاح الجو. يهدف نظام إدارة المعركة المتقدم إلى أن يعمل مثل تطبيق “أوبر” على ساحة المعركة من خلال ربط جميع المستشعرات ومنصات الأسلحة عبر المجالات المختلفة. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات، مثل حماية الأمن السيبراني، ومتطلبات الطاقة، والحاجة إلى حلول مثل “الحوسبة الضبابية” لمعالجة البيانات في الأطراف الأمامية للشبكة(8).
نظام إدارة المعركة المتقدم في العمليات متعددة المجالات
إعادة هيكلة التشكيلات العسكرية: دمج القدرات السيبرانية ضمن الوحدات متعددة المجالات. من الناحية التنظيمية، تتطلب العمليات متعددة المجالات تشكيل وحدات متعددة تدمج بين القدرات السيبرانية، والحرب الإلكترونية، والقدرات العسكرية التقليدية. هذه الوحدات تُمكّن من تنفيذ عمليات متزامنة عبر المجالات، بما في ذلك الهجمات السيبرانية التي قد تتطلب قربًا ماديًا من أنظمة التردد اللاسلكي. قامت الولايات المتحدة بتأسيس فرق مهام متعددة المجالات مزودة بكتيبة (الاستخبارات، العمليات المعلوماتية، الحرب السيبرانية، الحرب الإلكترونية، والفضاء)، والتي صُممت لاختراق المناطق المانعة لدى العدو. بدورها، أنشأت المملكة المتحدة “الفرقة السادسة”، والتي تتضمن “كتيبة سيبرانية” قادرة على تنفيذ عمليات هجومية. أما ألمانيا، فلا تزال تفتقر إلى مثل هذه التشكيلات وتعتمد على “دائرة الفضاء السيبراني والمعلوماتي” ذات الطابع المركزي. وعلى الرغم من إنشاء مراكز سيبرانية لأغراض دفاعية وهجومية محدودة، إلا أن ألمانيا لا تمتلك وحدات ميدانية مدمجة للعمليات السيبرانية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى القيود القانونية التي تمنع تنفيذ هجمات دون موافقة البرلمان.
القيادة اللامركزية في الفضاء السيبراني: تمكين القادة الميدانيين في العمليات متعددة المجالات. يُعتبر مفهوم “قيادة المهمة” والذي يتيح للقادة الميدانيين اتخاذ قرارات مستقلة وتنفيذها، عنصرًا أساسيًا في العمليات متعددة المجالات، لا سيما في بيئات اتصال معقدة. وهذا ضروري في العمليات السيبرانية التي غالبًا ما تتطلب استجابة فورية وتنفيذًا حساسًا للوقت. اتخذت الولايات المتحدة بعض الخطوات نحو اللامركزية من خلال مذكرات مثل “مذكرة التفاهم/13 الرئاسية للأمن القومي”، إلا أن معظم العمليات السيبرانية الهجومية لا تزال بحاجة إلى موافقة عليا. في المملكة المتحدة، لا تزال سلطة تنفيذ الهجمات السيبرانية الهجومية بيد القادة المدنيين مثل وزير الخارجية أو وزير الدفاع. أما ألمانيا، فيفرض نظامها السياسي والقانوني إشرافًا برلمانيًا صارمًا على العمليات العسكرية، مما يجعل من المستبعد تنفيذ عمليات سيبرانية بقرار ميداني. هذا التفاوت بين حلفاء الناتو يخلق تحديات في تنفيذ عمليات سيبرانية مشتركة، خاصة في سيناريوهات الحرب السريعة والمتغيرة.
فجوة الاستعداد السيبراني بين الحلفاء: الحاجة إلى توحيد العقيدة والأنظمة في حلف الناتو. تُظهر المقارنة بين الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، وألمانيا تفاوتًا في الاستعداد للعمليات متعددة المجالات المدعومة بالقدرات السيبرانية. فالولايات المتحدة تتفوق بفضل برامجها التقنية المتقدمة ووحداتها التجريبية وعقيدتها المتطورة. أما المملكة المتحدة، فهي تُحرز تقدمًا تدريجيًا من خلال الإصلاحات المؤسساتية، لكنها لا تزال تحتفظ بتحكم مركزي في عملياتها. تتأخر ألمانيا بسبب ضعف القدرات التقنية، والقيود القانونية، والتجزئة الهيكلية. لذلك من الضروري أن يطور حلف الناتو عقيدة موحدة للعمليات متعددة المجالات، وأن يؤسس أنظمة قيادة وسيطرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي قابلة للتشغيل البيني، وأن يعمل على مواءمة الأطر القانونية الوطنية. بدون هذه الخطوات، قد تواجه قوات التحالف صعوبات في تحقيق التماسك والسرعة اللازمة لتنفيذ حملات سيبرانية-حركية منسقة في حروب عالية الشدة.
فرص استغلال العمليات متعددة المجالات في تطوير ميدان المعركة المستقبلي
الاستثمار في أنظمة القيادة والسيطرة المعززة بالذكاء الاصطناعي لتسريع التفوق في اتخاذ القرار. يجب على التنظيمات العسكرية أن تعطي الأولوية لتطوير نظام قيادة وسيطرة قوي مدعوم بالذكاء الاصطناعي، قادر على دمج البيانات من جميع مجالات القتال: البرية، الجوية، البحرية، الفضائية، والسيبرانية. ستكون حروب المستقبل معقدة وسريعة الإيقاع ومشبعة بالبيانات، لذا فإن الحفاظ على التفوق في اتخاذ القرار يتطلب من الوزارة اعتماد نموذج مشابه لنظامي JADC2 وABMS الأمريكيين، اللذين يستخدمان الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة لأتمتة دورة “المراقبة – التوجيه – اتخاذ القرار، العمل” من خلال تسريع وتيرة اتخاذ القرار وتقليل أوقات الاستجابة، تمكّن أنظمة القيادة والسيطرة المعززة بالذكاء الاصطناعي القوات الصديقة من التفوق على الخصوم في كل من المجالات الفيزيائية والافتراضية. وتكتسب هذه القدرة أهمية خاصة في البيئات المعطلة التي تُحرم فيها القوات من الاتصالات عبر الأقمار الصناعية أو الاتصالات بعيدة المدى.
إنشاء تشكيلات متعددة المجالات تضم وحدات الحرب السيبرانية والإلكترونية. لتحقيق التفوق العملياتي، يجب على التنظيمات العسكرية أن تتجاوز الهياكل التقليدية للقوات، وأن تعمل على إنشاء تشكيلات متعددة المجالات تدمج القدرات السيبرانية، والحرب الإلكترونية، والعمليات المعلوماتية، والقدرات الفضائية مباشرة داخل الوحدات التكتيكية. ستتيح هذه التشكيلات تطبيقًا متزامنًا وفوريًا للتأثيرات الحركية وغير الحركية. على سبيل المثال تُعد “فرقة المهام متعددة المجالات” الأمريكية و”الفرقة السادسة” البريطانية مثالين على كيفية تحقيق هذا التكامل على مستوى اللواء أو الفرقة. إن دمج مشغلي الحرب السيبرانية والمتخصصين في الحرب الإلكترونية ضمن وحدات المناورة يمكّن من شن هجمات سيبرانية محلية وسريعة على أنظمة القيادة والسيطرة للعدو، أو تشويش إشارات GPS، أو تنفيذ عمليات خداع إلكتروني لتعطيل استهداف العدو واتصالاته في الوقت الحقيقي.
تعزيز ممارسة مبادئ قيادة المهمة لدى القادة في الفضاء السيبراني لتسريع التنفيذ التكتيكي. يعتمد تحقيق التفوق المستقبلي على لامركزية السلطة العملياتية وتعزيز ممارسة قيادة المهمة، وخاصة في مجال العمليات السيبرانية. يجب على وزارة الدفاع تحديث عقائدها لتبني مفهوم “قيادة المهمة السيبرانية ” أي تطبيق مبادئ اتخاذ القرار اللامركزي في الحرب السيبرانية. ففي النزاعات عالية التوتر، قد يؤدي الانتظار للحصول على تفويض على المستوى الوطني إلى تأخير اتخاذ إجراءات حاسمة. على سبيل المثال، قد يتطلب زرع برمجيات خبيثة أو تعطيل لوجستيات العدو خلال هجوم بري سريع دعماً سيبرانياً فورياً ومحلياً. لذلك، ينبغي على القيادة العسكرية تدريب القادة وتفويضهم في المستويات الأقل لتنفيذ العمليات السيبرانية ضمن إطار قانوني وعملياتي محدد. هذا التمكين يتيح استجابة مرنة للأهداف العابرة والتهديدات المتغيرة، خصوصاً في بيئات متعددة المجالات المتنازع عليها.
دمج إنترنت الأشياء لتحقيق الوعي في الوقت الفعلي بالموقف الميداني. ينبغي على التنظيمات العسكرية الاستفادة من قدرات إنترنت الأشياء العسكري لتوفير وعي ميداني مترابط في ساحة المعركة. يشير انترنت الأشياء إلى ربط أنظمة الأسلحة والمركبات والطائرات المسيرة وأجهزة الاستشعار ومعدات الاتصال ضمن شبكة ميدانية موحدة وقابلة للتكيف. وعند دمجه مع الحوسبة الطرفية والذكاء الاصطناعي، يتيح انترنت الأشياء تحليلات تنبؤية، واكتشافًا تلقائيًا للتهديدات، واستجابات ذاتية مستقلة. فعلى سبيل المثال، يمكن لشبكات الاستشعار تحديد مواقع مدفعية العدو اعتمادًا على بيانات صوتية، وتوجيه أنظمة الرد الناري المضاد تلقائيًا دون تدخل بشري. ويسهم هذا التكامل في تمكين القوات الصديقة من العمل داخل دورة اتخاذ القرار للعدو، وهو هدف محوري لتحقيق التفوق في العمليات متعددة المجالات.
تعزيز الصمود من خلال الدفاع السيبراني وعمليات الخداع. لا يكفي أن تكون القوات المتفوقة قادرة على الهجوم فحسب، بل يجب أن تتمتع أيضًا بقدرات فعالة على الدفاع والخداع. يجب على التنظيمات العسكرية أن تنشئ قدرات دفاع سيبراني قوية تحمي البنية التحتية الحيوية، والاتصالات التكتيكية، وسلامة البيانات من التهديدات السيبرانية المتقدمة. بالإضافة إلى ذلك، فإن دمج عمليات الخداع المدعومة بالقدرات السيبرانية، مثل التحركات الوهمية للقوات أو تزييف إشارات GPS يمكن أن يضلل الخصوم ويمنح القوات الصديقة ميزة استراتيجية. ويمكن استخدام هذه الأدوات لمحاكاة الحشود العسكرية أو لإخفاء التحركات الهجومية الحقيقية. وقد لوحظت مثل هذه الاستراتيجيات في العمليات السيبرانية–الحركية المشتركة التي نفذتها الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش، حيث تم تنسيق حملات التضليل الإلكتروني مع الضربات العسكرية الفعلية.
توحيد العقيدة وتعزيز التشغيل البيني مع الحلفاء. يتطلب تحقيق التفوق في العمليات الائتلافية أن توائم التنظيمات العسكرية للجيوش النظامية عقائدها في المجال السيبراني والعمليات متعددة المجالات مع عقائد الحلفاء الرئيسيين. إن التباين في الصلاحيات القانونية والثقافة العملياتية بين دول حلف الناتو، وخاصة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا يمكن أن يعيق تنفيذ العمليات المشتركة. لذا يجب على الجيوش النظامية أن تقود الجهود الرامية إلى إنشاء أنظمة قابلة للتشغيل البيني، وعقيدة موحدة، وأطر تدريب مشتركة تسمح بدمج التأثيرات السيبرانية بسلاسة خلال عمليات الناتو أو العمليات الائتلافية. وقد يشمل ذلك إجراء تدريبات مشتركة تحاكي سيناريوهات متزامنة في المجالات السيبرانية والفضائية والحركية، إلى جانب تجهيز بنية تحتية سيبرانية مهيأة مسبقًا لتسهيل التصعيد السريع عند الحاجة.
الإصلاح القانوني والسياسي لتمكين المرونة في الهجمات السيبرانية الهجومية. يجب على التنظيمات العسكرية أن تتعاون بشكل وثيق مع صانعي السياسات لضمان أن الأطر القانونية والسياسية تدعم القدرات السيبرانية الهجومية الاستباقية والمفوضة مسبقًا. إذ إن اشتراط موافقة على مستوى القيادة العليا لكل عملية سيبرانية، كما هو الحال في العديد من الدول، يخلق مشكلة “الانطلاقة الباردة”، نظرًا لأن الهجمات السيبرانية الفعالة غالبًا ما تتطلب وصولًا طويل الأمد وتحضيرات مسبقة. سيسمح الإصلاح القانوني، مثل تبني تفويضات محددة لبعض المهام السيبرانية لقوات الجيوش النظامية بالعمل بسرعة تتناسب مع متطلبات الصراع في المستقبل.
ختاماً، تمثل العمليات متعددة المجالات نقلة نوعية في التفكير العسكري الحديث، حيث تعيد صياغة مفاهيم القيادة والسيطرة، ودمج القدرات، وتوظيف التكنولوجيا لمواجهة تحديات ساحات القتال المعاصرة. من خلال الدمج بين الأسلحة التقليدية والحديثة، وتعزيز دور الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء العسكري، وتوسيع نطاق القيادة إلى المجال السيبراني والفضائي، تُمكّن هذه العمليات القوات المسلحة من تنفيذ عمليات منسقة وفعّالة عبر مختلف البيئات. ولضمان النجاح المستقبلي، يتطلب هذا المفهوم تحديث العقيدة العسكرية، وتطوير التشكيلات القتالية، وتعزيز الشراكات الدولية، وتكييف الأطر القانونية مع متطلبات المرونة وسرعة التنفيذ. إن تبني العمليات متعددة المجالات لا يُعد خيارًا، بل ضرورة استراتيجية لضمان التفوق العملياتي في بيئات صراع متغيرة وسريعة، ولمواجهة خصوم يمتلكون قدرات تكنولوجية متقدمة وأساليب هجينة وغير تقليدية.
يرجى الاطلاع على المزيد من المقالات حول البحوث العسكرية
لخدماتنا المختلفة يرجى الاطلاع على قسم الاستشارات
مراجع المقال
(1) كريج بوندرا و أنطوان دونيار، دراسة “قيادة المهمة في العمليات متعددة المجالات”. كلية الحرب الأمريكية، 2019
(2) “الناتو والعمليات متعددة المجالات في المستقبل”، مؤتمر القوة الفضائية والجوية المشتركة، موقع مركز كفاءة القوة الجوية المشتركة.. www.japcc.org/what-is-a-multi-domain-operation/
(3) “عملية جلونج سيمفوني”. موقع قاعدة ماكسويل الجوية. www.maxwell.af.mil/News/Display/Article/4085948/february-doctrine-paragon-cyberspace-operations/
(4) رائد/ أموس سي فوكس، دراسة “وضع العمليات متعددة المجالات في الإطار الصحيح”2020، هيئة الجيش الأمريكي (AUSA). www.ausa.org
(5) “مفهوم وظائف الحرب المشتركة”، موقع معهد التحليلات الدفاعية. www.ida.org
(6) كراسة “الجيش الأمريكي والعمليات متعددة المجالات عام 2028”. قيادة العقيدة والتدريب للجيش الأمريكي، 2018.
(7) مارك بالبوني وآخرون، دراسة “قيادة المهمة في العمليات متعددة المجالات”. كلية الحرب الأمريكية، 2019.
(8) فرانس ستيفن، دراسة “القدرات السيبرانية والعمليات متعددة المجالات في الحروب المستقبلية عالية التوتر عام 2030”. المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية، الولايات المتحدة، 2020